بين الأوزاعي والمنصور
هذا الامام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي قال محدثا عن نفسه: بعث الي أبو جعفر الم
نصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل, فأتيته, فلما وصلت اليه سلّمت عليه بالخلافة, فرد عليّ واستجلسني, ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟.
قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟.
قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم.
قلت: انظر يا أمير المؤمنين انك لا تجهل شيئا مما أقول.
قال: وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه, وفيه وجهت اليك وأقدمتك له.
قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به.
قال الأوزاعي: فصاح بي الربيع وأهوى بيده الى السيف فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة.
فطابت نفسي وانبسطت في الكلام, فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول بن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فانها نعمة من الله سيقت اليه, فان قبلها بشكر والا كانت حجة من الله عليه ليزداد اثما ويزداد الله بها سخطا عليه".
يا أمير المؤمنين: من كره الحق فقد كره الله, ان الله هو الحق المبين, ان الذي ليّن قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان بهم رؤوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه من ذات يده محمودا عند الله وعند الناس, فحقيق بك أن تقوم له بالحق, وأن تكون بالقسط لهم فيهم قائما, ولعوراتهم ساترا, ولا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب, تبتهج بالنعمة وتبتئس بما أصابهم من سوء.
يا أمير المؤمنين: قد كنت في شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم. وكل له عليك نصيب من العدل, فكيف اذا انبعث منهم فئام وراء فئام, وليس منهم أحد الا وهو يشكو بليّة أدخلتها عليه, وظلمة سقتها اليه.
يا أمير المؤمنين: ان الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل اليك, وكذا لا يبقى لك كما لم يبقى لغيرك.
يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"لو ماتت سخلة على شاطىء الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها" فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟ يا أمير المؤمنين: قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم امارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" يا عباس يا عم النبي! نفس تحييها خير من امارة لا تحصيها". نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئا اذ أوحى الله اليه:{ وأنذر عشيرتك الأقربين}, فقال: يا عباس, يا صفيّة عمة النبي, ويا فاطمة بنت محمد, اني لست أغني عنكم من الله شيئا, لي عملي ولكم عملكم.
وقال عمر بن الخطاب الأمراء أربعة:
فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله, يد الله باسطة عليه بالرحمة؛ وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك الا أن يرحمه الله؛ وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" شرّ الرعاة الحطمة" فهو الهالك وحده؛ وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا.
ثم قال: يا أمير المؤمنين, ان أشدّ الشدّة القيام لله بحقه, وان أكرم الكرم عند الله التقوى, وانه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه, ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه, فهذه نصيحتى اليك والسلام عليك. ثم نهضت فقال لي: الى أين؟
فقلت: الى الولد والوطن باذن أمير المؤمنين ان شاء الله.
فقال: أذنت لك وشكرت نصحك وقبلتها.
قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله.
وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا.
وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك*
*أي لم يغضب عليه.
(روى هذه النصيحة الحافظ ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء).
للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي : بين الأوزاعي والمنصور -||- المصدر :
منتدى الطريق الصحيح