اسمه:
هو أبي عبدالله سعيد بن جبير التابعي الجليل رضوان الله عليه، ويعد من كبار التابعين بل قيل أنه سيد التابعين هو والحسن البصري وسعيد بن المسيب واختلفوا فيهم.
أخذ سعيد بن جبير علمه من حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس فكان أحد التلاميذ المقربين لابن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلزمه كظله، فاض عليه من علمه تفسيراً وحديثاً، فأخذ عنه القرآن مفسراً والحديث وغريبه، حتى أصبح فقيهاً ولم يترك اللغة فقد اكتملت أدواتها عنده، وأخذ علمه أيضاً من بعض الصحابة رضوان الله عليهم من أمثال عبدالله بن مسعود وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر، وعدي بن حاتم، وعائشة بنت الصديق رضوان الله عليهم ومن ثم تعلم في مساجد الكوفة، وعلم جلة أبنائها، وأصبح معلماً شيوخها وصبيانها وكذلك كان سعيد بن جبير بارعاً في تلاوة القرآن الكريم وقراءاته المتعددة، فقيل أنه أمَّ الناس في المسجد، بعد أن اتخذه أهل الكوفة إماماً، واتخذها هو داراً له ومقاماً، فقرأ بقراءة زيد بن ثابت، فطلب أهل الكوفة منه أن يقرأ لهم بقراءة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقرأ لهم بقراءة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
صفاته ودعوته:
كان فتى حبشياً أسود اللون مفلفل الشعر قوي الجسم، محكمه، مكتمل الخلق، تتدفق منه حيوية نشطة، ليس للفتيان به شبيه، فذاً في علمه، تقياً ورعاً، وكان رضوان الله عليه شديد الإيمان حاد الفطنة ذكي العقل والفؤاد، محباً لمكارم الأخلاق، بعيداً عن المحارم ما ظهر منها وما بطن.
وسأله يوماً عطاء بن دينار وكان من رواد مجلس ابن جبير، فقال يا أبا عبدالله، ما الخشية؟
وما الذكر؟
فقال له: إن الخشية أن تخشى الله تعالى حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك فتلك الخشية.
وأما الذكر فطاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن أكثر التسبيح وقراءة القرآن.
وسأله هلال بن خباب ما علامة هلاك الناس؟
فقال سعيد: إذا ذهب أو هلك علماؤها.
وسأله رجلاً قائلاً: من أعبد الناس؟
فقال رجل اجترح من الذنوب، فكلما ذكر ذنوبه احتقر عمله.
وكان رضي الله عنه يعتمر ويحج في كل عام، فكان يشد رحاله إلى البيت الحرام كل عام مرتين، مرة في رجب محرماً بمعمرة وأخرى في ذي القعدة محرماً بحج.
من أقوال ودعاء سعيد بن جبير:
"اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك".
وقال لأحد تلامذته وهو يجالسه: "اعلم أن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".
من كرامات سعيد بن جبير:
قال أبي الفداء في كرامات الأولياء: قال ابن أبي الدنيا في مجالس الدعوة:
"حدثنا عبدالرحمن بن واقد أخبرنا ضمرة بن ربيعة أخبرنا أصبغ بن زيد الواسطي قال: كان لسعيد بن جبير ديكٌ كان يقوم من الليل بصياحه قال: فلم يصح ليلةً من الليالي حتى أصبح، فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق عليه فقال: ماله؟ قطع الله صوته!
قال: فما سمع له صوت بعدها، فقالت أمه: لا تدع على شيء بعدها".
المحنة التي تعرض لها سعيد بن جبير مع الحجاج:
تعرض التابعي الشجاع ابن جبير لمحنة عظيمة قتل فيها على يد الحجاج بن يوسف الثقفي فقد كان والياً على الكوفة وعلى العراق عموماً وبلاد ما وراء النهر من قبل الخليفة الأموي لدولة الإسلام آنذاك عبدالملك بن مروان وهذه الحادثة معلومة مشهورة لا تخفى على كثير من الناس، سنوردها باختصار.
فبعد أن أخضع الحجاج البلاد الإسلامية لخليفة المسلمين عبدالملك بن مروان، فقتل عبدالله بن الزبير الصحابي الجليل الذي كان يحكم بعض البلاد الإسلامية، وهزم عبدالرحمن بن الأشعث وجيشه بعد أن كانوا قد خرجوا على الحجاج وظلمه واستسلم باقي جيش ابن الأشعث للحجاج فبايع أكثرهم خوفاً من بطش الحجاج، وأما الباقي فقد نجى بدينه أولاً وبنفسه ثانياً من فتة الحجاج وعدوانه، وكما تعلمون كان الحجاج رجلاً فظاً غليظ القلب، يبطش بالسيف ويهرق الدم، حتى أشاع الرعب بين الناس وعرفوه بالظلم ومما نجي بدينه ونفسه سعيد بن جبير فقد كان مع ابن الأشعث، فتوارى عن جند الحجاج عشر سنوات في بلد الله الحرام مكة المكرمة، ولكن كان للحجاج عيون في كل مكان تبحث عن كل من خرج عليه، بالإتيان به عنده وبالأخص ابن جبير، وجاء الوقت الذي ولى فيه الحجاج رجل من أتباعه ولاية مكة فقام يبحث عن المطلوبين حتى شاء الله عز وجل أن يعلم بمكان سعيد بن جبير رضي الله عنه فأرسل للحجاج يخبره الخبر، فأرسل الحجاج إليه قائداً من أهل الشام من خاصة أصحابه يسمى المتلمس بن الأحوص ومعه عشرون رجلاً من أهل الشام فبينما هم يطلبونه وجدوه يصلي فدنوا منه فلما أتم صلاته، سلموا عليه فرد عليهم السلام، فأطبق الجند عليه وألقوا القيد في يديه ودعوه إلى الاستعداد للرحيل إلى الحجاج وهو في الطريق شاهد بعض أصحابه وهم لا حول لهم ولا قوة بتخليصه من هذا الطاغية وجنوده.
فقال لهم: ما أراني إلا مقتولاً على يدي ذلك الظالم، ولقد كنت أنا و صاحبان لي في ليلة عبادة فاستشعرنا حلاوة الدعاء فدعونا الله بما دعونا وتضرعنا إليه بما شاء أن نتضرع ثم سألنا الله جل وعز أن يكتب لنا الشهادة وقد رزقها الله لصاحبي كليهما، وبقيت أنا أنتظرها...
ووصل الشيخ سعيد بن جبير إلى مدينة واسط، حيث يسكن الحجاج بن يوسف الثقفي فأدخل عليه فلما مثل أمامه قال له الحجاج: ما اسمك؟
قال: سعيد بن جبير
فقال الحجاج له: أنت الشقي بن كسير
فقال سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
فقال: شقيت أنت وشقيت أمك
قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك، أي والله عز وجل يعلم الغيب ويعلم هل أنا وأمي في الجنة أو في النار.
ثم سأله عدة أسئلة إلى أن قال له ما تقول في؟
قال: أنت اعلم بنفسك
فقال: بل أريد علمك أنت
قال سعيد: يحزنك ولا يسرك
قال: حسناً فلنسمع منك
قال سعيد: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تفعل الشيء تريد به الهيبة وهي تدفعك إلى النار دفعاً.
قال الحجاج: اختر لنفسك أي قتلة تريد أن أقتلك؟
قال سعيد: اختر لنفسك أنت يا حجاج فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
فقال: أتريد أن أعفو عنك.
قال سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براء لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه فلما خرج سعيد من عنده ضحك.
فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده فرد فقال له ما أضحكك؟
قال سعيد: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك.
فقال الحجاج: اضربوا عنقه واضجعوه للذبح.
قال سعيد: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79]
قال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة.
قال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]
قال الحجاج كبوه على وجهه.
قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]
قال الحجاج: عجباً كيف يتذكر هذه الآيات في مثل هذه اللحظة! اذبحوه!
قال سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا الله اللهم لا تسلطه على أحد يقتله من بعدي...
فذبح سعيد بن جبير من قفاه.. واستجاب الله لدعاء سعيد فلم يقتل أحد بعده... وما بقي الحجاج بعد قتله لسعيد إلا أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً وقيل ثلاثة أيام حتى أصابته الحمى واشتد عيه المرض ثم مات، وقيل أن الحسن البصري لما علم بقتل سعيد من قبل الحجاج دعا الله قائلاً: "اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج".
فما مرت ثلاثة أيام حتى وقع من جوف الحجاج دود فأنتن ومات منه.
ويحكى أن قبل وفاة الحجاج بأيام تحولت حياته إلى كوابيس فلم يعد يعرف النوم، فكان كلما نام، جاءه سعيد بن جبير في المنام وأخذ برجله ومرة أخذ بمجامع ثوبه، فيفيق الحجاج مذعوراً وهو يصيح قائلاً: هذا سعيد بن جبير أخذ برجلي، ومرة أخرى ينهض صائحاً هذا سعيد بن جبير أخذ يخانقني ومرة ثالثة يقوم فزعاً يقول هذا سعيد بن جبير يقول فيما قتلتني؟
فيما قتلتني ثم يبكي الحجاج ويقول: مالي و لسعيد بن جبير.
ردوا عني سعيد بن جبير، وكان الناس يقولون عنه: إن الحجاج كان يمشي ويكلم نفسه بهذه العبارة.
وقيل أن بعض الناس شاهد الحجاج في المنام فقال له: ما فعل الله بك يا حجاج؟
فقال: قلتني الله بكل امرئ قتلة واحدة... وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
فرحم الله الشيخ والتابعي الجليل سعيد بن جبير، الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله: "لقد قتل سعيد بن جبير، وما على الأرض أحد إلا هو محتاج إلى علمه".
فرحمه الله رحمه واسعة وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وعمنا معهم بفضله وجوده وإحسانه إلى يوم الدين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم أجمعين.