تــــزكــــــيــــة النـــــــــفـــــس
فإن الله تبارك وتعالى أقسم في كتابه أحد عشر قسماً ، وهو سبحانه لا يُقسم إلا على أمرٍ ذي بالٍ وله شأن عظيم .
فأقسمَ تبارك وتعالى بالشمس وبضُحاها وبالقمر وبالنهار وبالليل ، وبالسماء وبمن بناها [ على قول لأهل التفسير ، وعلى القول الثاني ، أن القسم بالسماء وبنيانها ، وكذلك ما بعدها ] ، وبالأرض وبمن طحاها ، وبنفس وبمن سوّاها ، والمُقسَم عليه هو فلاح مَنْ زّكى نفسه ، وخيبة وخسارة مَنْ دسّاهـا .
والتـزكية هنا هي تطهير النَّفس من أدران الذنوب صغيرها وكبيرها ، وتنقيتها مِن العيوب ، وترقيتها بطاعة الله ، وعلوّها بالعلم النافع والعمل الصالح ، فإن النفس تسمو بهذه الأشياء ، وترتفع بالإيمان عن نَزَعَاتِ الشهوات ، وتعلّق النفس بهذه الدنيا ومَلَذّاتِها التي هي في حقيقتها لا تُساوي عند الله جناح بعوضة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء . رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما .
وأخذ ابن القيم هذا المعنى فقال :
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة = لم يَسْقِ منها الرب ذا الكفران
لكنهــا والله أحقرُ عنـده = من ذا الجناح القاصر الطيران
إن أعظم مِنّةٍ امتـنّ الله بها على هذه الأُمّـة هي بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعثته متضمنة تلاوة آيات الله على أتباعه ، وتزكيتهم ، وتعليمهم الكتاب والحكمة ، قال سبحانه : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) .
قال الشيخ السَّعدي في قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ) : أي يُطهّر أخلاقَكم ونفوسَكم بتـربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتـنـزيهها عن الأخلاق الرذيلة ، وذلك كتزكيتِكم من الشرك إلى التوحيد ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الخيانة إلى الأمانة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق ، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التّحابِّ والتواصل والتّوادد ، وغير ذلك من أنواع التزكية .اهـ
فتسمو النفس بالإيمان بالله ، فلا تلتفت إلى قطّاع الطريق على الله والدار الآخرة ، وإذا سَمَت النفس وارتفعت بالإيمان بالله لم تكن هذه الحياة الدنيا سوى مرحلة تُوصِل إلى الله ، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير ، فقام وقد أثّـر في جنبه ، فقيــل لـه : يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء ؟ فقال : ما لي وما للدنيا ؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها . كما في المسند وجامع الترمذي .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد كتب إلى بعض إخوانه : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله ، والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله ؛ فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده ، وأحبك الناس لتـركك لهم دنياهم ، والسلام .
وقال رضي الله عنه : ابن آدم إنمـا أنت أيام ، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك . ابن آدم إنك لم تـزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك . وورد مثله عن الحسن .
وإذا عَلَتْ همةُ المؤمن طَلَبَ جنةً عرضها السماوات والأرض ، كما فَعَلَ ربيعة ابن كعب الأسلمي رضي الله عنه ، لما قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : سل . قال : أسألك مرافقتك في الجنة . قال : أو غير ذلك . قال : هو ذاك . قال : فأعنى على نفسك بكثرة السجود . رواه مسلم .
هكذا تسمو النفس فتـرى أنها في حبس ، لا أن تتعلّق بهذا الحبس .
أعني ما صحّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر . رواه مسلم
وإذا ترفّعتْ نفسُ المؤمن طَلَبَتْ معالي الأمور ، وتجنّبتْ سفاسفها ، كما قال صلى الله عليه وسلم .
إن الله يُحب معالي ألأمور وأشرافها ، ويكره سفسافها .
وتكون تزكيةُ النفس بتعاهد خطراتها ، وحركاتها وسكناتها ، وما تأتي وما تذر وماذا تُريد بكذا وماذا أرادت بكذا ، ماذا أرادت بتلك الكلمة ، وماذا قصدت بتلك النظرة ، ولماذا فرّطتُ في طاعة ربي ، ولماذا أخّرتُ الصلاة ، وهكذا .
فإن مَنْ حاسب نفسه في هذه الحياة الدنيا هانَ عليه الحساب يوم القيامة ، ولذا قال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذٍ تعرضون لا تَخفى منكم خافية .ومِن وسائل تزكية النفس نهيها عن الهوى ، فإن ذلك سبباً في رفعتها ، كما قال وليُّها ومولاها : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى
وقد قيل :
تركُ نفسك يوماً وهواها = سعـيٌ لهــا في رداهــا
وقد أوصى الله سبحانه وتعالى عبده ونبيَّه داود صلى الله عليه وسلم بأن لا يتّبع الهوى فيُضلّه عن سبيل الله ، قال سبحانه وبحمده : ( ياداوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )
وأوصى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بما أوصى به المرسلين ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ )
فالوصية : لا تتبعوا الهوى فتجوروا .
فالله تبارك وتعالى جَعَلَ اتِّباع الهوى سبب الضلال ، فَمَنْ اتّبع هواه ، فقد اتّخذه إلها مِن دون الله ، ومن أضلّ ممن يدعوا من دون الله ، كما في قوله عز وجل : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ )
وقال سبحانه وبحمده : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا )
ثم قال تبارك وتعالى : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا )
وإن النفس كلما زَكَتْ تشوّقت إلى الجنة ، وإن نفس المسلم توّاقـة .
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : إن لي نفسا تواقة ، لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان ، ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر ، فأصبت منه حاجتي وما كنت أريد ، ثم تاقت إلى السلطان فاستعملت على المدينة ، ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إلى اللبس والعيش الطيب ، فما علمت أن أحدا من أهل بيتي ولا غيرهم كانوا في مثل ما كنت فيـه ، ثم تـاقـت نفسي إلى الآخرة والعمل بالعـدل ، فأنا أرجو أن أنال ما تاقت نفسي إليه من أمر آخرتي .
ومما يُزكّي النفس مراقبة الله في الخلوة والجلوة .
ولما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان : من عبد الله وحده ؛ فإنه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه … وزكّى عبدٌ نفسه ، قال رجل : ما تزكية المرء نفسه يا رسول الله ؟ قال : أن يعلم أن الله معه حيثما كان . رواه الطبراني في مسند الشاميين ، واصله عند أبي داود .
ولذا عرّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإحسان بأنه : أن تعبد الله كأنك تراه .
وكان مِنْ دعائه صلى الله عليه وسلم أنه يقول : اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خيـر من زكاها . أنت وليها ومولاها . كما في صحيح مسلم .
فدلّ هذا الحديث على طلب تزكية النفس ، وسؤال الله التوفيق لتـزكية النفس ؛ لأن تزكية النفس سبيل للفلاح .
والتزكية تنقسم إلى قسمين
1 - قسم مطلوبٌ ، وهو ممدوحٌ شرعاً ، وهو تزكية النفس وتطهيرها من الذنوب والآثام ، وتنقيتها من شوائب العبودية لغير الله ، والتعلّق بسوى مولاها ، وهذا الذي قال فيه الحق سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )
2 - وقسمٌ ممنوعٌ شرعاً ومنهيٌ عنه ، وهو تزكية النفس ومدحها ، والإعجاب بالعمل ، وحبُّ المدح بما ليس في الشخص ،فإن الله ذمّ الذين يُحبُّون أن يُحمَدُوا بما لم يفعلوا كما في قوله تعالى : ( لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وهذا النوع من التّزكية هو الذي قال فيه عز وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )
ولما ذَكَرَ تبارك وتعالى الكبائر وأمر باجتنابها قال : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )
فنهى سبحانه وتعالى عن تزكية النفس إذ هو سبحانه أعلم بالمتقين ، فلا يمدح العبدُ نفسه بأنه من المتقين ، وقد كان سلف هذه الأمة يذمّون أنفسهم ، ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم ، ويعملون العمل ويجتهدون فيه ، ويخافون أن يُردّ عليهم .
قال أوي الوازع قلت لابن عمر : لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم ، فغضب وقال : إني لأحسبك عراقيا ! وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه ؟!
قال أبو المليح قال رجل لميمون : يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم . قال : أقبل على شأنك ! ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم .
وكانوا يتّهمون أعمالهم ، ويخشون أن تُردّ عليهم لتقصيرهم فيها مع اجتهادهم .
و لذا لما نزل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) قالت عائشة – رضي الله عنها – : سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر قال : لا يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يُصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم ، أولئك الذين يسارعون في الخيرات . رواه الترمذي وغيره .
وكان مُطرّف بن عبد الله يقول : لأن أبيت نائما ، وأصبح نادما ، أحب إلي من أن أبيت قائما ، فأصبح معجَبا . يعني بعمله .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مـرّ على أنفه ، فقال به هكذا . رواه البخاري .
وقال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا . يعني إساءةً في العمل وأمناً من مكر الله .
وكان الربيع بن خثيم على شِدّته في العبادة حتى رُويَ عنه أنه إذا سجد كأنه ثوب مطروح ، فتجيء العصافير فتقع عليه ، ومع ذلك ورد عنه أنه كان يبكى حتى تبتلّ لحيته من دموعه ، ثم يقول : أدركنا أقواما كنا في جنوبهم لصوصا .
وكان - رحمه الله - يُقـاد إلى الصلاة وبه الفـالج ، فيُقـال لـه : يا أبا يزيد قـد رُخِّص لك قال : إني أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ، فمن سمع منكم فليُجبه ولو زحفا ولو حبوا .
وهو الذي قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآك لأحبّك ، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين .
ومن هذا النوع - أي الممنوع من التزكية -كان النبي صلى الله عليه وسلم يُغيِّر بعض الأسماء لما فيها من التزكية ، فقد غيَّر اسم ( بَرّة ) إلى زينب ، وقال : لا تُزكوا أنفسكم ، الله أعلم بأهل البر منكم .
وعكس التزكية التدسية ، وهي سبب الخذلان والخسارة ، كما قال تعالى : ( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )
وقال سبحانه وتعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )
فالإنسان في خسارة عظيمة ، وهو مردود إلى أسفل سافلين ، ومستقرُّه في سجّيـن
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
فَدَلّ هذا على فضل الإيمان بالله والعمل الصالح ، وأن النفس تسموا به وتزكوا ، وأنها بغير الإيمان بالله والعمل الصالح تُـردّ إلى أسفل سافلين ، ولذا قال سبحانه عن الكفار : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا )
وأعظم ما تُدنّس به النفوس الشرك بالله ، فإن الله سمّى الكافرين نجس ، وهي النّجاسة المعنوية ، قال سبحانه : ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا )
وتكون تدسية النفس بتدنيسها بالمعاصي والموبقات والرذائل من الأخلاق والرديء
من الطباع والعادات ، وترك ما يُكمّلها ويُنمِّيها ، واستعمال ما يَشينها .
ولم أر في عيوب الناس عيباً = كنَقصِ القادرين على التمـام
فإذا كانت المسلمة تستطيع أن تُكمل نفسه ولم تفعل فهذا علامة خُذلان وتخليةٌ للمرء مع نفسه ، وإذا وُكِلَ العبدُ إلى نفه فقد وُكِلَ إلى ضعف وعجزٍ وعورة .
وقد ذَكَرَ ابن القيم شيئاً مِن عقوبات المعاصي ، فقال :
من عقوبات المعاصي جَعْل القلب أعمى أصم أبكم ، ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه ، فيُخسف به إلى أسفل سافلين وصاحبه لا يشعر ، وعلامة الخسف به أنه لا يزال [ أي القلب ] جوّالا حول السفليات والقاذورات والـرذائل ، كما أن القلب الذي رفعه الله وقرَّبَـه إليه لا يزال جوّالا حول البِرِّ والخير ومعالي الأمور والأعمال والأقوال والأخلاق .
قال بعض السلف : إن هذه القلوب جوّالة ؛ فمنها ما يجول حول العرش ، ومنها ما يجول حول الـحُـشّ . والحش هو بيت الخلاء .
ومنها – أي مِن عقوبات المعاصي- مَسْخ القلب ، فيمسخ كما تمسخ الصورة ، فيصيـر القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعتـه ؛ فمـن القلــوب مــا يُمسـخ علـى قلب خنزيـر لشـدّة شَبَــهِ صاحبه به ، ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك ، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) قال : منهم من يكون على أخلاق السباع العادية ، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير ، ومنهم من يتطوس في ثيابه كما بتطوس الطاووس في ريشه ، ومنهم من يكون بليد كالحمار ، ومنهم من يُؤثِر على نفسه كالديك ، ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام ، ومنهم الحقود كالجمل ، ومنهم الذي هو خير كله كالغنم ، ومنهم أشباه الذئاب ، ومنهم أشباه الثعالب التي يروغ كروغانها .
وقد شبّه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحُمُرِ تارة ، وبالكلب تارة ، وبالأنعام تارة ، وتقوى هذه المشابهة باطنا حتى تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خَفِيّاً يراه المتفرسون ، ويظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد ، ولا يزال يقوى حتى تُستشنع الصـورة ، فتنقلب لـه الصورة بإذن الله ، وهو المسخ التام ، فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان ، كما فعل باليهود وأشباههم ، ويفعل بقوم من هذه الأمة يَمسخهم قردة وخنازير .
فسبحان الله كم من قلبٍ منكوسٍ وصاحبه لا يشعر ، وقلبٍ ممسوخ ، وقلبٍ مخسوف به ، وكـم من مفتونٍ بثناء الناس عليه ، ومغـرورٍ بستـر الله عليه ، ومستدرَجٍ
بنعم الله عليه ؛ وكل هذه عقوبات وإهانة ، ويظن الجاهل أنها كرامة !
وقال : ومنها حجاب القلب عن الرب في الدنيا ، والحجاب الأكبر يوم القيامة كما قال تعالى : (كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ )
فَمَنَعَتْهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها فَيَـرَوا ما يُصلحها ويُزكيها ، وما يُفسدها ويُشقيها ، وإن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم فَتَصِلَ القلوب إليه فتفوزَ بقربه وكرامته ، وتَقَرَّ به عينا ، وتطيبَ به نفسا ، بل كانت الذنوب حجابا بينهم .
ومنها – أي من عقوبات المعاصي - المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة . قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) .
ولا تَقَرُّ العين ، ولا يهدأ القلب ، ولا تطمئنُّ النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حقّ ، وكلُّ معبودٍ سواه باطل . اهـ .
والله تعالى أعلى وأعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سبحان الله
الحمدلله
لا إله إلا الله
الله اكبر
كتبه الشيخ/ عبدالرحمن السحيم حفظه الله