ملخص الخطبة
1- حديث ((احفظ الله يحفظك)) وما فيه من معانٍ وتوجيهات 2- معنى حفظ العبد لله 3- معنى حفظ الله للعبد ، وأنواع ذلك وصوره
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم إخوتي الكرام ونفسي بمراقبة الله سبحانه في الظاهر والباطن، ومحاسبة النفس في الدنيا قبل الحساب الأكبر يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا غلام أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وفي رواية: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)).
قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه.
إن في هذا الحديث من معاني التوحيد والتعلق بالله وحده وتسليم الأمور له وحده والطمأنينة بقضائه وقدره، ما يشعر المسلم معه بطمأنينة النفس وسكون الروح، وسمو المشاعر وانضباط الجوارح.
لقد علم النبي ابن عباس ذلك الغلام الفذ علّمه تلك الوصايا العظيمة الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة، وفيه درس عظيم لنا في أن نعلم أبناءنا ونساءنا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبث النصح والتوجيه المستمر، وفي الوقت المناسب، لتكون مصابيح في طريقهم إلى الخير.
أما قول النبي : ((احفظ الله يحفظك))، في هذا يعني حفظ حدود الله بلا تجاوز، وحفظ حقوقه، وأوامره ونواهيه، وذلك باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، جاء في الأثر: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حُرُمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وقد أثنى الله على من حفظ حدود الله قال تعالى: والحافظون لحدود الله [التوبة 112] وقال تعالى: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [سورة ق 32-33]، ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال : ((من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة)).
ومما أمر الله بحفظه الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم، ويدخل فيه حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات وما يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج قال : ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)).
كما يشمل ما أمر الله به أن يحفظ العبد سمعه عن الحرام، وأن يحفظ بصره فلا ينظر إلى الحرام، فمن أدى ما أمر الله به حينئذ فليستبشر بحفظ الله له فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة 40]. وكما قال تعالى: اذكروني أذكركم [البقرة 152]، وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، وكذلك كان يدعو بهذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح يقول: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
وقال علي : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه .
وحفظ الله وجده إبراهيم عليه السلام في النار، ووجده يوسف عليه السلام في الجب، ووجده يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، كما وجده موسى عليه السلام في اليَم وهو طفل مجرد من قوة ومن كل حراسة، كما وجده في قصر فرعون وهو عدو له متربص له.
ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه في بدنه وقوته وعقله وماله، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة وهو ممتع بعقله وقوته فوثب يوما من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر .
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخا يسأل الناس فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً [الكهف 82] إنما حفظا بصلاح أبيهما، وقال سعيد بن المسيب لابنه: إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً [الطلاق 2]. وقال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس، وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أن يجعل حتى الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، ساعية في مصالحه كما جرى لسفينة مولى النبي حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى السبع، فقال: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله ، فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليه، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
اللهم اجعلنا حافظين لحدودك، مؤتمرين بأمرك، منتهين عما نهيت عنه يا رب العالمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فمن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصبح أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه فتجد المال يؤذيه، والولد يؤذيه، وكذا المقربين من أصحابه. كما قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري، يعني أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركوبه .
والنوع الثاني من الحفظ وهو أشرفها وأفضلها: حفظ الله تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإسلام فأي نعمة أعظم من هذه، وأي سعادة أعظم من هذه السعادة، في الوقت الذي يتهاوى فيه كثير من الناس في الشهوات والشبهات، وقد ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب أن النبي علم أن يقول عند منامه: ((اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)).
وكان النبي إذا ودع من يريد السفر يقول له: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) وفي رواية وكان يقول: ((إن الله إذا استودع شيئا حفظه)).
ومن حفظ الله للعبد أن يحول بينه وبين الوقوع في المعصية كما حفظ يوسف عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف 24] وسمع عمر رجلا يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحُل بيني وبين معاصيك، فأعجب عمر ودعا له بخير. وقال الحسن عندما ذكر أهل المعاصي قال: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدنيا من الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهيته لذلك.
قال ابن مسعود : إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة أو الإمارة فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وفي الجملة فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتي شيئا مما يكرهه الله، وكان بعض السلف يدور على المجالس ويقول: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله.
وكان بعض الناس يطلب من العمري الزاهد الوصية له فيقول له: كما تحب أن يكون الله لك، فهكذا كن لله عز وجل.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
وقال مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.
فتأمل في حفظ الله لعباده الصالحين، قد حفظهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ثم هو يحفظهم في أعظم ما يحملون في دينهم، بل ويحفظهم من كل سوء لم يقدره عليهم، فهنيئا لأولئك الذين صبروا على طاعة ربهم، وهنيئا لمن راقب الله في جوارحه ولسانه وأعمال قلبه، قد نالوا حفظ الله لهم، ومن يحفظه الله فلا يمكن لأي قوة في الأرض أن تخترق هذا الحجاب المنيع.
أما الذين ضيعوا أمر الله فوا أسفى على حياة ما تلذذوا بها، وعلى أيام حيل فيها بينهم وبين ما يشتهون، فانقلبت لذتهم حزنا وصفوهم كدرا.